للإجابة عن هذا السؤال يجب على المرء أن يتراجع ويسأل "ما هي الشخصية في الواقع؟" بمعنى آخر، إذا التقيت بك كيف يمكنني التعرف إليك؟ وما هي الأسئلة التي سأطرحها عليك؟ وما هي الإجابات التي سأحصل عليها؟ وماذا سيبقى في الخفاء؟ وماذا سيظهر للعلن؟
ما هي الأشياء التي تصف الشخصية وتعبِّر عن الذات؟
توجد أشياء مختلفة يمكن أن تصف شخصيتك وتعرِّف عن ذاتك، على سبيل المثال، يمكنك أن تخبرني عن وظيفتك، وما إذا كان لديك أطفال، وما هي الآمال التي لديك، كما يمكنك ذكر أهداف حياتك الرئيسة الثلاثة أو إخباري ما إذا كنت ستصف نفسك بأنَّك شخص حازم أم متساهل أم مرح أم عصبي.
لفرز هذه الجوانب المتعددة، أنشأ علماء نفس الشخصية نماذج وأطر توصلوا إليها بعد سلسلة من الملاحظات والأبحاث والدراسات، وأحد الأمثلة البارزة للغاية هو الدليل العملي لدراسة شخصيات الناس (McAdams، 2013؛ McAdams & Pals، 2006).
النظرية الاجتماعية في تفسير الذات الإنسانية:
يفسر المستوى الاجتماعي كيف يكون الناس في "الجانب الروتيني من الحياة"؛ أي إنَّ العامل الاجتماعي يصف كيف يفكر الناس ويشعرون ويتصرفون في حياتهم اليومية، مثل عندما يذهبون إلى العمل أو يتحدثون إلى أفضل أصدقائهم أو يتناولون العشاء، وواحدة من التصنيفات الأكثر شيوعاً التي يستخدمها علماء نفس الشخصية للمستوى الاجتماعي هي السمات الشخصية الخمس الكبرى (John & Srivastava، 1999) وهي الانفتاح على التجربة والضمير والسعادة والقبول والعصابية.
تفاصيل الصفات النفسية في الذات الإنسانية:
يميل الأشخاص الذين يتمتعون بدرجة عالية من الانفتاح إلى أن يكونوا مفكرين وخياليين، في حين أنَّ الأشخاص ذوي الضمير الحي يكونون شاملين ومنظمين ومسؤولين وملتزمين بواجباتهم، ويميل الأشخاص الذين يتمتعون بمنسوب عالٍ من السعادة إلى أن يكونوا ثرثارين واجتماعيين وحازمين ونشيطين، ومن المرجح أن يبحثوا عن مواقف حياتية يبرزون فيها عضلاتهم، ويتسمون بالتأثير الإيجابي.
كما يميل الأشخاص الذين يتمتعون بدرجة عالية من التوافق إلى أن يكونوا لطيفين ويتمتعون بحسن النية ومتوافقين مع محيطهم ومتعاونين، بينما يميل الأشخاص الذين يعانون من العصبية إلى القلق وتقلُّب المزاج والانزعاج بسهولة ويتصورون البيئة الاجتماعية تصوراً سلبياً.
شاهد: 10 خطوات لاكتساب شخصية قوية حسب علم النفس
هل تُعَدُّ هذه الصفات قواعد ثابتة في الذات الإنسانية؟
الأهم من ذلك أنَّ هذه السمات هي ميول ظرفية، وهذا يعني أنَّ أفكارك ومشاعرك وسلوكاتك الحالية قد تكون مختلفة عن ميولك العامة لمجرد أنَّ الموقف يتطلب المزيد من الإبداع أو الحزم أو الصمت مقارنةً بميلك العام. فعندما يكون الدافع الاجتماعي يقظاً - يأخذ في الحسبان كيف يفكر الناس ويشعرون ويتصرفون - فإنَّ الجانب الطموح من الشخصية يأتي بورقة وقلم ليخطط للمستقبل، وهو يهتم بجميع الجوانب التي تتحدث عن الدوافع والأهداف والتوقعات وغيرها من الخصائص الاجتماعية والمعرفية التي يمتلكها الناس.
على سبيل المثال، قد تكون "نور" منفتحة انفتاحاً خاصاً لأنَّها تهدف إلى العثور على شريك جديد، أو يمكن أن تفقد "سارة" نفسها في الكتب لأنَّها تريد فهم الإشعاع الكهرومغناطيسي؛ وعلى هذا النحو، توفر الأهداف للناس سبباً للقيام بما يفعلونه واستثمار الطاقة والوقت في مشاريعهم، ويؤدي الجانب الطموح من الشخصية أيضاً دوراً هاماً في العلاقات الرومانسية.
كاتب السيرة الذاتية عنصر متأصل في الذات الإنسانية:
يسمي الباحثون عنصراً آخر من عناصر الشخصية "كاتب السيرة الذاتية" الذي يربط ما وصل إليه الآن بالمستقبل والماضي الشخصي؛ إذ يروي كاتب السيرة الذاتية قصة حياته بتحولاتها الجيدة والسيئة، على سبيل المثال، ربما كان "جون" خجولاً في سنوات المراهقة، ولكنَّ الانتقال إلى بلد آخر كان نقطة تحول بالنسبة إليه وأدى إلى تغيير كبير في شخصيته وأصبح أكثر ميلاً إلى المغامرة.
ما هو الجانب الأكثر فردية في الذات الإنسانية؟
كما وصف عالم النفس "ويليام دنلوب" (2015) أنَّ سرد شريط الحياة هو الجانب الأكثر فردية للشخص؛ وذلك لأنَّه حتى لو كان لدى شخصين نفس التجارب بالضبط، فلن يرويا نفس القصة تماماً، كما أنَّ الروايات ليست ثابتة أبداً؛ إذ تتكشف حياتنا باستمرار، وكذلك روايات الناس وأحداث حياتهم في تغير مستمر.
نحن جميعاً مكونون من خليط من الشخصيات في كل لحظة، ونفكر ونشعر ونتصرف بطرائق مختلفة، وتحفزنا أهدافنا وحاجاتنا، ويمكننا معرفة كيف أصبحنا الشخص الذي نحن عليه من خلال قراءة شريط حياتنا ليس من ولادتنا فقط؛ بل من مرحلة ما قبل الولادة وطبيعة العلاقة بين الأب والأم، ومن ثمَّ فإنَّ عناصر الشخصية ليست أجزاء منفصلة من الشخص، ولكنَّها مرتبطة نظرياً وتجريبياً ببعضها بعضاً (Bühler 2020).
هل تؤثر روح العصر في عناصر الذات الإنسانية؟
تم تكوين كل مجموعة ولادة في سياقات مختلفة وشهدت ظروفاً معيشية مختلفة؛ لذلك غالباً ما تختلف مجموعات الولادة في القيم والتفضيلات المعيشية لديهم؛ إذ وُلد المراهقون من "الجيل الجديد" (المعروف بالعامية باسم جيل الألفية) بين أواخر الثمانينيات وأوائل القرن الواحد والعشرين.
بالمقارنة مع الأجيال السابقة، يميل جيل الألفية إلى أن يكون أكثر فردية، وقد ينعكس على موقف ذواتهم تجاه الهياكل الاجتماعية والرومانسية التي يعيش فيها آباؤهم وأجدادهم، كما يظهر هذا أيضاً في تفضيلهم لمزيد من أشكال العلاقات الفردية؛ إذ يكون الزواج والأسرة المشتركة مجرد خيار وليس أمراً ضرورياً أو إجبارياً.
ما هو التسلسل الهرمي لاحتياجات الذات؟
إذا فكرنا في الاحتياجات الأساسية للذات الإنسانية، فإنَّ أول ما يتبادر إلى الذهن هو تسلسل "ماسلو" الهرمي للاحتياجات (ماسلو، 1954)؛ إذ يقول "ماسلو" إنَّ الناس لديهم مستويات مختلفة من الاحتياجات، والتي يتم ترتيبها هرمياً، بدءاً من احتياجات الأمان والبقاء على قيد الحياة إلى احتياجات الانتماء والحب ومن بعدها احتياجات الاحترام، أما المستوى الأخير فيتضمن احتياجات تحقيق الذات وتنمية المهارات.
أمثلة من الحياة الواقعية عن التسلسل الهرمي لـ "ماسلو":
إذا تم استيفاء مستوى من الاحتياجات، يمكن للمرء الانتقال إلى المستوى التالي والتقدم في سلم المستويات بالترتيب، على سبيل المثال، لننظر في قصة صديقتنا "رهام" التي انتقلت مؤخراً إلى مدينة جديدة وهي قلقة بشأن الانتماء إلى هذا المكان الجديد، ومن المحتمل ألا تَعُدَّ تحقيق الذات حاجة هامة لأنَّها لا تشعر بالارتباط الاجتماعي والقبول في الوسط الذي تعيش فيه.
"حازم" بخلاف "رهام"، فهو يشعر بالأمان ويمارس مهارات التواصل الاجتماعي، وهو محبوب في وسطه الاجتماعي؛ لذلك فهو يسعى الآن جاهداً إلى تحقيق الذات وتنمية مهاراته المهنية أو العلمية أو الوظيفية أو غيرها، ومن ثمَّ فإنَّ احتياجات الذات الإنسانية تعكس الظروف والسياق الذي يعيش فيه الشخص.
ما هي علاقة التسلسل الهرمي لـ "ماسلو" باحتياجات جيل الألفية الجديد؟
يبدو أنَّ المستوى الأخير من التسلسل الهرمي للاحتياجات لـ "ماسلو" - الحاجة إلى التطوير الشخصي - هامة وخاصةً لجيل الألفية في الوقت الحاضر (Finkel et al.، 2014)، وهذا ما نراه في الطرائق التي يبدأ بها الشباب علاقاتهم الرومانسية ويطورونها، ومن ثم ينهونها، فإنَّهم يرغبون في الحصول على مساحة لتطورهم، وهذا هو السبب في أنَّهم يفضلون غالباً العيش في أسر منفصلة، أو قد يفسدون العلاقات في وقت قصير إذا كان لديهم انطباع بأنَّه لم يعد يُسمح لهم بالمساحة التي يحتاجونها.
شاهد أيضاً: 12 حقيقة عن حب الذات يجب على الجميع أن يتذكرها
هل العلاقات الرومانسية هامة لتحقيق السعادة من وجهة نظر جيل الألفية الجديدة؟
حققت دراسة حديثة (Scheling and Richter 2021) فيما إذا كانت هذه الاحتياجات تنعكس أيضاً على الأفكار الموجودة عند الشباب المتعلقة بالعلاقات، وكان السؤال الرئيس في الدراسة هو ما إذا كان جيل الألفية الجديد يختلف عن المراهقين من الأجيال السابقة في الأهمية التي يعزونها للعلاقات الرومانسية بِعَدِّها ضرورية لسعادتهم الشخصية.
للإجابة عن سؤالهم البحثي استخدم الباحثون بيانات من الهيئة الاجتماعية الاقتصادية الألمانية (SOEP) التي بدأت أعمالها في عام 1984؛ ففي بداية الدراسة قدَّم المراهقون البالغون من العمر 17 عاماً إجابة عن السؤال الآتي: "هل تعتقد أنَّ المرء يحتاج إلى شريك ليكون سعيداً؟ أو هل تعتقد أنَّه يمكن أن يكون المرء سعيداً أو أكثر سعادة بمفرده؟".
مع مرور الوقت، قدَّم ما مجموعه 4540 مراهقاً من فئات عمرية مختلفة إجابة عن هذا السؤال، وهذا مكَّن الباحثين من مقارنة إجابات المراهقين من جيل الألفية الجديدة مع إجابات الأجيال السابقة، فماذا وجدوا؟ ومن المثير للاهتمام أنَّه في عام 2000، اعتقد ما يقرب من 78% من المراهقين أنَّهم بحاجة إلى شريك ليكونوا سعداء، في حين انخفض هذا العدد إلى 48% في عام 2015، وهكذا كلما أتى المراهقون في وقت لاحق، قل احتمال تأكيدهم على ضرورة وجود شريك لتحقيق سعادتهم الشخصية مقارنة مع من سبقوهم.
في الختام:
يمكن أن يكون الدخول في علاقة رومانسية مُرضية عنصراً هاماً لحياة سعيدة ومُرضية، لكن في ظل هذا العصر أصبحت مسارات العلاقات وأشكال المعيشة أكثر تنوعاً، ولم يعد البقاء في علاقة شرطاً ضرورياً للسعادة - على الأقل بين الأشخاص من الجيل الجديد - وقد يكون الأمر نفسه صحيحاً بالنسبة إلى أشخاص آخرين في مرحلة ما من مراحل حياتهم، وبالنسبة إلى بعضهم، قد يكون وجود علاقة أكثر أهمية من أي شيء آخر، في حين أنَّها أقل أهمية بالنسبة إلى الآخرين.
أضف تعليقاً