بحثت في تراثنا الإسلامي الأخلاقي عن استعمال للفظة (نقد) فلم أجد ، ووجدت مفردات بديلة مثل (التسديد) و (إهداء العيوب) و (إقالة العثرات) و (الوعظ) و (المحاسبة) و (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و (النصيحة) ..
والتقيتُ ـ في أثناء البحث ـ بأساليب (نقدية) تربوية رائعة ومنها هذان المثالان :
فلقد جرى حوار بين الإمام موسى الكاظم في العصر العباسي) وأحد أصحابه المعروفين (صفوان الجمّال) الذي كان يؤجّر جماله إلى (هارون الرشيد) ، فقال له :
«كلّ ما فيك حسن ما خلا خصلةً واحدة» .
فتوجّه صفوان بكلّ مشاعره لهذه الخصلة ، قائلاً :
وما هي يا مولاي !
فقال : «اكراؤك الجمال من هذا الرجل (ويقصد هارون) » .
فاللاّفت هنا أنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) ابتدأ بنقد صفوان بطريقة مهذبة ولطيفة ورقيقة لم يشعر معها بالجرح أو الحرج ، بل بالعكس تفتحت مسامعه كلّها للاستماع إليها .
فحينما تقول لانسان (كلّ ما فيك حسن) فإنّك تبتدئ بالإيجابي ، ولقد رأيت ـ من خلال تجربتي ـ أنّ الإبتداء بالنقاط الإيجابية يجعل (المنقود) مستعداً لتقبّل النقد .
ومثل ذلك (نقد) الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لشخص منحرف اسمه (الشقراني) حيث قال له :
«الحسن من كل أحد حسن وإنّه منك أحسن لمكانك منّا ، وانّ القبيح من كلّ أحد قبيح وإنّه منك أقبح لمكانك منّا» .
فالإمام هنا بدأ بالنصيحة بأمر إيجابي أيضاً (الحسن من كلّ أحد) كما انّه ركّز على أ نّه محسوب على المسلمين ، ومَنْ كان منهم حريّ به أن يكون في مثل أخلاقهم .
ولقد جرّبت ذلك فوجدت أثره عظيماً ، فهو اسلوب رفيق رقيق ليس فيه تجريح ولا تشهير ولا تسقيط .
وكنت قد استفدت أيضاً من قول آخر للإمام الصادق (عليه السلام) في اسلوب النقد السليم ، ذلك هو «مَنْ وعظ أخاه سرّاً فقد زانه ومَنْ وعظه علانية فقد شانه» .
فرأيت أنّ النقد والوعظ والنصيحة في حضور الآخرين لها مردود سلبيّ على نفسية (المنقود) وقد يكون عكسياً ، أي قد تجعله يتشبّث بموقفه وخطئه ، وأنّ المحاسبة والنصيحة البينيّة ، أي بينك وبين صاحبك تأثيرها أعظم .
بهذه الأساليب الرائعة تحوّل نقدي للآخرين إلى عملية إهداء للعيوب بالحكمة والموعظة الحسنة . وقد عَلّمني أحد الإخوة درساً عملياً آخر .
فلقد أسأتُ إليه بكلمة جارحة فتأ لّم منِّي لكنّه كتمها في نفسه ولم يبدها في الحال ، فزرته في بيته بعد يومين لأعتذر إليه فاستقبلني مهللاً مرحباً ، فقلت : إنّها بداية طيِّبة .. ويبدو أ نّه تناسى كلمتي ، فقلت له :
لقد جئتك معتذراً .
فقال باستغراب : عن ماذا ؟!
قلت : عن الخطأ الذي صدر منِّي قبل يومين .
قال : لقد استغربته منك في حينها ، لكنني حينما رجعت إلى نفسي ، تذكّرت أنّ لدي أمثال هذا الخطأ الكثير ، فعذرتك !
وفي الحال تذكّرت الحديث الشريف الذي يقول : «خيرُ إخوانك مَنْ نسب ذنبك إليه وذكر إحسانك إليه» . ومن يومها وأنا أحمل تصرّفات إخواني على الوجه الحسن ، وأجد لهم العذر ، فإذا لم أجد خلقت لهم عذراً من عندي ، وبهذا طابت صحبتي معهم وصحبتهم معي !
أمّا تقبّلي لنقودهم وملاحظاتهم فجاء نتيجة عهد عهدته مع نفسي أن لا أتسرّع في الدفاع عن نفسي ، بل أترك للملاحظات النقدية فرصة المراجعة ، فإن كنتُ كما يقولون غيّرت وعدّلت وبدّلت ، وإن كنت ليس كما يقولون غفرت لهم واستغفرت .
كما تعاهدت مع بعضهم على أن نكون مرايا فعلية لبعضنا البعض ، أي أن أنقل له ملاحظاتي عنه بصراحة تامّة ، وينقل لي ملاحظاته ومؤاخذاته بصراحة كاملة ، ولم ننسَ أن نضع ذلك كلّه في إطار من المودّة والمحبّة والحرص المتبادل والإخلاص فيما بيننا .
المصدر: شباب عالنت
أضف تعليقاً